تدوين الحديث الشريف
تدلنا نصوص كثيرة على أن كتابة الحديث النبوي بدأت في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأنها كانت بعلمه، بل بأمره في بعض الأحيان.
فقد ثبت عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أنه قال: "ما من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أكثر حديثا عنه منـي إلا مـا كان مـن عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب". وقد تحدّث عبد الله بن عمرو عن كتابته للحديث فقال: "كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أريد حفظه، فنهتني قريشٌ فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) بشر، يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرتُ ذلك لرسـول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق". وسمّى عبد الله بن عمرو صحيفته التي جمع فيها كتابته هذه "الصادقة"، واشتهرت هذه التسمية بين أهل العلم .
وأمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالكتابة لأبي شاه، وهو رجل من أهل اليمن لم يستطع أن يحفظ تفصيلات إحدى خطب النبي (صلى الله عليه وسلم) فطلب أن تكتب له، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : "اكتبوا لأبي شاه".
ومنها أنه أمر بكتابة رسائل كثيرة، لعدد من الملوك وزعماء القبائل في عصره يدعوهم إلى الإسلام، منها: رسالة إلى كسرى (ملك فارس)، وأخرى إلى هرقل (عظيم الروم)، وثالثة إلى المقوقس (ملك مصر).
وأنه (صلى الله عليه وسلم) أمر بالكتابة إلى الضحاك بن سفيان الكلابي أن يُورِّثَ امـرأة أشيم الضباني من ديته.
ودعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأديم -وعلي بن أبي طالب عنده- فلم يزل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يملي وعلي يكتب حتى ملأ بطن الأديم وظهره وأكارعه (الأديم هو الجلد والأكارع هي امتداد الجلد من ناحية الأرجل).
فهذه النصوص وغيرها تثبت أن كتابة الحديث بدأت في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . ولما توفي (صلى الله عليه وسلم) استمر الصحابة في كتابة الحديث، وقد ذكر الدكتور محمد مصطفى الأعظمي في كتابه: "دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه" اثنين وخمسين صحابيًا كتبوا الحديث، وأنه كان لبعضهم عدد من التلاميذ، كتبوا عنهم صحفًا حديثية. أما في عصر التابعين، فتوسعت دائرة الكتابة جدًا، حتى أحصى الدكتور الأعظمي فـي كتابه المتقدم مائة وواحدًا وخمسين تابعيًا، كان كل منهم يجمع الحديث ويكتبه ويمليه على تلاميذه. واستمر التوسع في كتابة الحديث حتى النصف الثاني من القرن الثاني حيث بدأت تظهر المصنفات الحديثية.
ومن الجدير بالذكر أن يقال هنا: إن تدوين الحديث من قِبَل الصحابة ومَن بعدهم كان تدوينًا فرديًا خاصًا. أما التدوين الرسمي أي تدوين الحديث بأمر من رئيس الدولة، فقد كان في عهد عمر بن عبد العزيز، الخليفة الأموي، (كانت ولايته من سنة 99 إلى سنة 101هـ)، حيث وجّه كتبًا إلى عماله وولاته يطلب منهم الاهتمام بالعلماء، ويجمع حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وكان ممن أكّد عليهم بهذا الطلب عامله على المدينة أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم (توفي سنة 117هـ)، وعالم المدينة في زمنه محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (توفي سنة 123هـ). وكان غرضه حفظ العلم ونشره، خوفًا من ضياعه وموت أهله.
وقد ذكر الدكتور محمد عجاج الخطيب في كتابيه "الوجيز في علوم الحديث" و "المختصر الوجيز في علوم الحديث" أن التدوين الرسمي كان أسبق من ذلك، وأنه كان في عهد والي مصر عبد العزيز بن مروان (توفي سنة 85هـ) وهو والد عمر، وأنه كان قد تنبه إلى أهمية تدوين أحاديث الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فكتب إلى كثير بن مُرّة الحضرمي ­أحد أعلام التابعين­ يطلب منه أن يكتب ما سمعه من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) من أحاديث نبوية.
وفي النصف الأول من القرن الهجري الثاني بدأ ظهور المصنفّات الحديثية، واختلف العلماء في تحديد أول من صنّف، لعدم وجود معلومات صريحة في ذلك، إذ كانت سنوات وفيات أصحاب هذه المصنفات متقاربة.
ثم توالت المصنفات بالظهور تباعًا من النصف الثاني من القرن الهجري الثاني حتى كان القرن الهجري الثالث،وهو عصر الازدهار في المؤلفات الحديثية، إذ تنوعت فيه المؤلفات الحديثية وتعددت مظاهرها، وصارت ألوان التأليف وطرائقه واضحة مشهورة. فمن العلماء من ألّف على طريقة الموطآت، ومنهم من ألف على طريقة المسانيد، ومنهم من ألّف على طريقة الأبواب والموضوعات، أو على طريقة المعاجم والأمالي والفوائد والأجزاء … إلى غير ذلك من طرائق التأليف. وكان أبرز المصنفات الحديثية الكتب الستة، وهي: "الجامع الصحيح" لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (توفي سنة 256هـ)، و "الجامع الصحيح" لمسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (توفي سنة 261هـ)، وكتب "السنن" لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، (توفي سنة 275هـ)، ولأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (توفي سنة 279هـ)، ولأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي (توفي سنة 303هـ)، ولابن ماجه أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني (توفي سنة 275هـ).
ويعتبر الكتابان الأولان "الجامع الصحيح" للبخاري و"الجامع الصحيح" لمسلم أصح كتابين بعد القرآن الكريم، لأن مؤلفيهما اشترطا لإخراج الأحاديث فيهما شروطًا خاصة لم تتوفر في غيرهما من المؤلفات. والبخاري مقّدم على مسلم في قوة هذه الشروط.
ومن مظاهر عناية المحدثين بحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن قامت علوم مستقلة، احتوى كل علم منها على مؤلفات كثيرة جدًا، وعلى دراسات مهمة حول دقائق المسائل، خدمة لعلوم الحديث.
منها: "علم الجرح والتعديل"، وهو علم اهتم بدراسة أحوال الرواة، ومعرفة سنوات ولادتهم، وسنوات وفياتهم، وأسماء شيوخهم وتلاميذهم، ورحلاتهم، ودرجات ضبطهم لمروياتهم، وغير ذلك من الصفات، التي تقتضي قبول أو رد الأحاديث التي رووها.
ومنها: "علم علل الحديث"، وهم علم يهتم بدراسة الأسباب الخفية التي تؤدي إلى ضعف الحديث، مع أن ظاهر الحديث الصحة والسلامة.
ومنها: "علم غريب الحديث" ويهتم ببيان معاني الألفاظ الغامضة المعنى، الواقعة في متون الأحاديث.
ومنها: "علم ناسخ الحديث ومنسوخه"، والنسخ هو (رفع الشارع حكمًا متقدمًا بحكم منه متأخر). فموضوع علم ناسخ الحديث ومنسوخه، منصب على جمع ودراسـة الأحاديث المتعارضة التي لا يمكن التوفيق بينها، فيلجأ حينئذٍ لمعرفة المتقدم زمنًا منها وهو المنسوخ، والمتأخر زمنًا وهو الناسخ.
ومن الجوانب المشرقة في الدراسات الحديثية، ما قام به المحدثون من وضع ضوابط لتمييز الأحاديث الصحيحة من الضعيفة، وهو ما عرف بـ "علم أصول الحديث" أو "علم مصطلح الحديث". والغرض منه معرفة ما يقبل من الأحاديث وما يردّ. وهذا يحتاج إلى شيء من البيان: